ينطلق فى محراب جسد
من أن هناك معبداً وحيداً حقيقياً على هذه الأرض، هو جسد الإنسان يجب معرفة طقوسَ هذا المعبد وفلسفته، أرضه وكواليسه وأسراره، جنونه وفجوره وهلوساته، حقائقه وأقنعته وأكاذيبه، صوره وظلاله وتجلياته، الجميلة منها والبشعة، الملموسة والمجرّدة، الحسيّة والروحانية على السواء، في تصميمٍ مثقّفٍ ورصينٍ وعارف وعنيد على كسر أغلال المحرمات - توقاًً إلى أعلى سماءٍ للحرية بستحقها يد كل كاتب وعالم وفنان في هذه الحياة.

في قداسة الحَدَث الجنسي: بقلم/ عبد الدائم السلامي


المقال خاص بالرومي

يكاد الجنس يكون المسألة الوحيدة التي اتفقت بشأنها تصوّرات الثقافات البشرية منذ أقدم عصورها، وقد أحلّتها محلّات طقسيّة ارتقى بها الحدث الجنسيّ إلى مراقي المقدَّسِ، وسيّجته بمجموعة من النواهي والتحريمات التي ضمنت له طُهريته ومنعت عنه التردّي في خانة الابتذال. ولئن بدا جليا سعيُ المجتمعات الحديثة إلى نزع القداسة عن الأشياء والأحياء والظواهر المادية والرمزية فإن ذلك لم يدفعها إلى تعرية الجنس، بل إننا نلفي لديها نزوعًا إلى تأصيل ارتباطه بكلّ ما هو روحي ووجداني من معيش الإنسان.
في كتابه «الجنس والمقدّس» تكفّل الباحث كريس بيشوب Chris Bishop بتحليل بعض الموضوعات الجنسية كالعذرية والخصوبة والأنوثة والزفاف وذلك من جهة اتصالها بالمقدّس، وكشف عن مدى استفادة هذه الموضوعات ممّا ترشح به الطقوس الدينية من تنظيمات سلوكيّة وأحكامٍ أخلاقيّةٍ، وهو ما جعل الحدث الجنسيّ يشهد تحوّلا عميقًا من دلالته الدنيا، التي يظهر فيها فعلا جسديا، إلى دلالةٍ جديدة صار بمقتضاها شعيرةً مقدّسةً يمتزج فيها المادي بالروحي والنشوة بالتصوّف، بل ارتقى من محلّ الحاجة الشهوانية إلى محّل الهاجس الفنيّ والفكريّ في النشاط البشريّ اليوميّ.
ولم تَغفل الثقافة العربية عن الاهتمام بالمسألة الجنسية في مدوّناتها الخبرية والإبداعية؛ حيث ظهرت فيها كتب توصّف الفعل الجنسي وتسعى إلى تبيّن ما ينهض عليه من فلسفة “جسدية” وما يتخفّى فيه من أحوال الأرواح العاشقة له وذلك في ما سُمّي بأدب المجون وهي تسمية متهافتة نميل معها إلى تسميته بأدبِ تعليم الجنس على غرار كتابيْ “نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب” لأحمد التيفاشي و”الروض العاطر في نزهة الخاطر” للنفزاوي. وقد انصبّت كثرة كثيرة من الدراسات العربية الحديثة على حدث الجنسِ وسعت إلى تأصيله ضمن دوائر المقدّس الثلاث: الجنس والسياسة والدّين. من ذلك أن بوعلي ياسين يذهب في كتابه «الثالوث المحرّم- دراسات في الدّين والجنس والصراع الطبقيّ»، إلى تبيّن فهم الدّين للفعل الجنسيّ، حيث يقول: «لا شكّ في تأثير الأوامر الدينية في أمور الجنس – هذا التأثير الذي نلمسه حتى الآن بنفس القوّة تقريبا كما كان قبل آلاف السنين – خاصة وأن الأوامر الدينية، بصفتها هذه، هي في الوقت نفسه أوامر المجتمع وأوامر أخلاقية. هنا يتّحد الدّين والجنس بشكل أوامر دينية-جنسية، وتظهر الأوامر الجنسية كتابوات (كمحرّمات ومقدَّسات) في خدمة الطبقة أو الطبقات المسيطرة، لا المتطلّبات البيولوجية والاجتماعية للإنسان، بل محرَّفة ومعارضة أكثر أو أقل لهذه المتطلّبات. بذلك يقوم الدّين أيضا، عبر الجنس وعلى أفضل وجه، بدوره في خدمة مجتمع الطبقات الرجالي. وبالعكس، يربط النشاط الجنسي المنظّم هكذا، وبمفعول مقارب، الإنسانَ بالدّين عامّة».
ولا يُخفي بوعلي يسين تأكيد دور الجنس في الصراع الطبقيّ، إذ يرى في هذا الشأن أن «الإنسان المكبوت ليس حقا بقادر على العمل الخلاّق مثل الإنسان المشبع جنسيا، إذ إن الحرمان الجنسي يجعله في نفسية ووضعية فيزيولوجية معيقة لمثل هذا العمل، …، ولهذا فإن الإنسان المكبوت هو الإنسان الصالح بالنسبة للطبقة المتسلّطة، لأنه إنسان مسحوق يقوم بأيّ عمل يُطلب منه، بأتفه وأسخف وأقذر الأعمال، إلى جانب صرف الطاقة الكامنة في أعمال مغتربة تخدم الطبقة المسيطرة».
أما الباحث التونسي عبد الوهاب بوحديبة فينظر إلى الحدث الجنسيّ، في بُعده الإسلامي خاصة، باعتباره فعلاً إيجابيا مقدّسا تجاه الذّات وتجاه الآخرين وتجاه الله؛ ذلك أن الجنس «يتمتع الجنس بمكانة متميّزة رفيعة في الإسلام، سواء في النصوص الضابطة لممارسته على الصعيد الاجتماعي أو في تلك التي تسمح للحلم بالتحليق عاليا في أفق الرؤى المكثّفة. إنّ المتعة الجنسية حقّ ثابت يتّسق والرؤية المسلمة المتناغمة للحياة. ويُضيف القرآن، فضلا عن الأبعاد الحسية والبيولوجية والأخلاقية للجنس، بعدا جماليا ليصبح الحبّ متعة وبهجة من نِعَمه تعالى».
ويعلّل بوحديبة قوله بالاتكاء على ما ورد بالنص القرآني وبالأحاديث النبويّة من ترغيب في الجنس وفق المعايير الدينية، من ذلك ما جاء في قوله تعالى: «زيّن للناس حُبّ الشهوات من النساء» (آل عمران، الآية 14)، إذ في اتصال لفظة «زُيّن» بالشهوات إحالة إلى كون الجنس من زينة الدنيا، بل هو حلية يتحلّى بها الإنسان لحظة ممارسته.
وفي السياق ذاته، يذهب بوحديبة إلى اعتبار الفعل الجنسي يرقى، في مفهومه الدّيني، إلى مرقى الشعيرة الدّينية الواجبة لصدقية كلّ إيمان بالله، حيث يقول: «إنّ الحبّ الصادق الذي تصاحبه الرغبة الملحّة يُعد سبيلا إلى تحقيق الانسجام الكوني. وهذا رسول الله يقول: (إنّ الرّجل إذا نظر إلى امرأته ونظرت إليه نظر الله إليهما نظرة رحمة، فإذا أخذ بكفّها تساقطت ذنوبهما من خلال أصابعهما). وتضيف رواية أخرى ما يعني أن الملائكة تحيط بهما حين يجامعها. إنّ للمتعة والرغبة جلال الجبال وبهاءها، فإذا حملت الزوجة فثوابها مثل الصوم والصلاة والجهاد. وهكذا تحضّ الأحاديث برمّتها على النكاح».
وبالنظر إلى وجوب الفعل الجنسيّ، وضرورة نهوض ممارسته على قاعدة الحبّ، وتوفّره على شرط السريّة، فإنه يحوز في التصوّر الإسلامي صفة الغموض، وهو غموض محيل إلى الرهبة والتقديس، وينعكس على المستوييْن القدسي والتاريخيّ، ذلك أنّ «الحبّ سرّ مقدّس وماديّ، وتقبّل الإنسان للجنس فعل إيجابيّ من أفعال التقوى كالصلاة والصدقة والشهادة، لأنه يتضمّن تقبّل معجزة النبوّة المتجدّدة والتصوّر المسبق لنِعَم السماء. إن الجنس يعني الشهادة لإرادة الله، والتعبير عن المشيئة الإلهية… إنّ النكاح سرّ قدسيّ صحيح. والزواج الفعلي يضع الإنسان، من الناحية الشرعية، في مرتبة الإحصان. ويتعلّق الزنا تحديدا، بالإنسان، رجلا كان أو امرأة، المرتبط بعقد نكاح فعلي، ولهذا يُعدّ أيّ إخلال انتهاكا للأوامر الدينية والشرعية».
ولعلّ في قدسيّة الفعل الجنسي في الإسلام، وفق ما يذهب إليه بوحديبة، ما شجّع كثيرا من الكُتّاب والفقهاء على إعمال خيالهم لتقديم تصوّرٍ ماديٍّ للجنّة ناهضٍ في أغلبه على قاعدة ما فيها من وفير الجنس، على غرار ما كتب السيوطي من أنّ العبد المؤمن يتزوّج بسبعين حوراء، إلى جانب زوجاته الآدميات، «يرى مخّ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء… فكلّما أتى إلى واحدة وجدها بِكرا وله ذَكَرٌ لا ينثني، وله في كلّ دَفعة شهوة ولذّة لو وجدها أهل الدنيا لغشي عليهم من شدّة حلاوتها».
وفي إطار البحث عن علاقة الجنس بالميثيولوجيا، يذهب تركي علي الربيعو إلى اعتبار الجنس سبيل الكائن إلى الخلود الإلهي، وذلك من جهة أنه فعل «مسكون بهاجس البحث عن البدايات الأولى، ويُغذّيه حنين كبير إلى أسطورة العَوْد الأبديّ. فمنذ ذلك الحين وحتى الآن، يصبح السلوك الجنسيّ، الذي قامت به الآلهة أو أنصاف الآلهة أو الأسلاف الميثيّين[هكذا] بكلّ هالتهم الميثيّة، أنموذجًا يُحتذى به وبادرةً نموذجيةً بدئيّةً مقدّسةً، على جميع الأجيال التي يُغذّيها حنينُها الأزليُّ إلى أسطورة العود الأبديّ أن تُحاكيها وتعيد تكرارَ طقوسياتها باستمرار». ويواصل هذا الباحث تأكيد أنه «إذا كان الجنس المقدّس هو صيغة العلاقة بين الخلود والألوهية، …، فإنه بنفس الوقت، سِرٌّ، إنه السرّ الأعظم والذي يستمدّ عظمته من كونه فعل مشاركة واندماج مع الإلهي، بصورة أدق، طقس عبور إلى الخلود والألوهية».
والذي نخلص إليه هو تقرير أن الحدث الجنسي قد حاز في الثقافات البشرية بُعدا روحيا متصلا بالظاهرة الدينية، ومن ثمة صار فعل تضامٍّ وتضامنٍ معا، بل هو فعل صوفيّ يمثّل وسيطا بين الكائنات وآلهتها.
جسد الإنسان يجب معرفة طقوسه
وفلسفته أرضه وكواليسه وأسراره
الجسد هو الحياة نفسها، بكل تجلياتها
الجسد هو المسافة الفاصلة بين الحياة و الموت