ينطلق فى محراب جسد
من أن هناك معبداً وحيداً حقيقياً على هذه الأرض، هو جسد الإنسان يجب معرفة طقوسَ هذا المعبد وفلسفته، أرضه وكواليسه وأسراره، جنونه وفجوره وهلوساته، حقائقه وأقنعته وأكاذيبه، صوره وظلاله وتجلياته، الجميلة منها والبشعة، الملموسة والمجرّدة، الحسيّة والروحانية على السواء، في تصميمٍ مثقّفٍ ورصينٍ وعارف وعنيد على كسر أغلال المحرمات - توقاًً إلى أعلى سماءٍ للحرية بستحقها يد كل كاتب وعالم وفنان في هذه الحياة.

عندما تصبح الدعارة الهام ... نساء تكتب الشعر و تمتهن الدعارة


أن تكتب امرأة شعرا هذا شيء عادي في نظر جميع الأمم، أما أن تكتب الشعر وتمتهن الدعارة دون أي عقدة، فهذا موضوع نقاش. لكن في أوروبا، بالأخص في فرنسا، بلد إعلان حقوق الإنسان،، هناك عشرات من النساء يمارسن كتابة الشعر والدعارة في آن. من هنا، جاءت فكرة تسليط الضوء على هذه المهنة المزدوجة. وصدف لي أني أعرف شاعرة واحدة فقط من بين اللواتي يمارسن الدعارة إما من اجل لقمة العيش أو من أجل تحقيق رغبة مقنعة... وبعد محاولات إقناع عديدة، وافقت التي اعرفها على إجراء لقاء شرط أن ننشر أجوبتها الصريحة دون رقابة. ونأمل من القراء فهم عملنا هذا ليس الاستفزاز، وإنما هو إعطاء فرصة للآخر، خصوصا الآخر الأنثوي الغربي ان يُسمع بحرية..

جولي ليبرينو امرأة في الثلاثين.. جميلة، وكثيرة الابتسام، لكن لها نظرة فيها حدة شبقية "تثير أحيانا من ينام معها"، كما قالت لي مستغربة، "يبدو ان هناك رجالا يأتي ظهرهم سريعا عندما تعرف المرأة كيف تشعرهم بأنهم تحت  سيطرتها". تعرفت إليها قبل خمس سنوات. التقيها من وقت إلى آخر في مقهى متخصص ببيع البيرة البلجيكية قرب سينما كليشي، أحيانا ادعوها إلى كأس بيرة لقاء ثرثرة في أمور النكاح والشعر وعلاقة المهنتين، فجولي تعتبر الشعر أيضا نوعا من المهنة. تعيش قريبا من منطقة بلانش الواقعة بين بيغال وجسر مونمارتر. لكن مكان عملها (إغراء مار للذة عابرة) يقع في "ساحة بودابست" (أول شارع امستردام) حيث تأتي اعتبارا من الساعة الحادية عشرة صباحا... ولها حدس بأن هذا المار يهوى قضاء وقت معها لقاء مبلغ يتراوح ما بين الثلاثين يورو والمئة حسب الرغبة المطلوب تحقيقها، فتغمز له وهي تقترب منه ويبدأ حديث روتيني بينهما: "مرحبا، كيف الحال.. كم.. لا كثير.. أوكي.. اتفقنا". وهكذا تأخذ الرجل الى فندق (لايحق لي ذكر اسمه وموقعه) يدفع الرجل مبلغ الغرفة التي ستختلي جولي به ساعة أو ساعتين أو أكثر حسب الاتفاق بينهما.

يصل احيانا أن تقضي جولي حاجة عشرة رجال أو أكثر في اليوم الواحد.. وأحيانا لا تجد سوى رجلين أو ثلاثة رجال. فالأمر يعتمد على الطقس، كلما كان معتدلا أفضل، إذ يسهل على جولي أن تكشف عن بعض أماكن جسدها لتثير إغراء مار ما... لكن حتى البرد له مميزاته، في نظر جولي. فبحجة ان الطقس بارد تلتصق بالرجل ومن خلال معطفها تلامس قضيب الرجل مثيرة فيه رغبة المضاجعة وهي تتفق معه على السعر.

وافقت جولي على إجراء حوار

بادرتها بسؤال كان يلح علي:

* كيف آلت بك الأمور إلى هذه الحال؟
- كنت في السابعة عشرة عندما قرأت "أزهار الشر" لبودلير.. فشعرت برعشة غريبة في جسدي، وتبعها بلل بين فخذي... وبدأت أشعر برغبات متوالية في الاستمناء.... وبعد أيام تعرفت إلى شاب قوي كان يأخذني إلى غرفته ويمارس الجنس معي كثيرا... إلى حد اضطررت معه إلى إعادة قراءة بودلير ليزيدني رغبة في النكاح.... أثناء هذه الممارسات كنت أكتب قصائد صغيرة تدور حول متعة الحياة والجنس... صديقي الشاب الذي علمني كل الطرق لإثارته وفي الحقيقة كان خبيرا، تركته بعد تجربة عامين، إذ اكتشفت انه مازوشي النزعة، كان يشعر بلذة إذا نظرت اليه نظرة متعالية وأنا أركبه، أو اصفعه أثناء المضاجعة. ويجب أن تعرف بأن المرأة تحاول الانتفاع من سلطتها، أي لاتجد فعلا لذة كبيرة بقدر ما تجعل نقطة الضعف هذه في رجل ما وسيلة للوصول الى شيء آخر لا علاقة له باللذة السادية. بينما يفاخر الرجل بتسلطه على المرأة دون ان يدري انه هو الضحية.. فوجود المرأة تقوم على ذكوريته، وما إن يفقدها تشعر المرأة بانتفائها، من هنا هي دائمة البحث عن ذكورية أكبر وأكبر الى ما لانهاية. المرأة أعماق، كل شيء يجري في جوفها، بينما الرجل خارجي سطحي، فبالنسبة اليه كل شيء عملية قذف الى الخارج، بينما المرأة كل شيء يمضي في اعماقها.

المهم شعرت فيما بعد بأن اللذة التي علمني عليها هذا الشاب باتت أشبه بمهنة علي أن أقوم بها له.. وبعد أن تركته نهائيا... خطرت لي فكرة أن استفيد ماليا من تجربتي الجنسية، وخصوصا كنت شابة لم تبلغ العشرين بعد. اختليت بنفسي عدة أشهر، اقرأ فيها الكتب التي تروي قصصا عن شذوذ الرجال، وأيضا كتب الشعر الجنسية، اكتشفت شعراء كثيرين وخصوصا شاعر الوثنية المثيرة للحواس بيير لويس الذي وصف فرج المرأة بأجمل العبارات، كهذا البيت: "ما من شَعرة في عانتها لا يبعث على الانعاظ" فمزقت كل ما كتبته من قصائد، وقررت أن أخوض مغامرة حياتية جديدة وهي أن أكتب قصيدة بعد كل مضاجعة، وحتى لا تكون قصائدي مكررة، قررت أن يكون الأشخاص أيضا غير مكررين، وهكذا وجدتني في سوق اللذة كأي بضاعة أدفع رسوما إلى مؤسسة مسؤولة عن بغايا، توفر لنا الغرف في فنادق معينة، حسب منطقة كل واحدة، لتحقيق لذة رجل. ومثلما أبيع جسدي، أبيع قصائدي على أوراق مطبوعة في معارض الكتب، أو المهرجانات أو احيانا في المترو. وقصائدي دائما قصيرة قصر الرعشة الجنسية التي نشعر بها.

* أحقا تعتقدين أن الشعر مهنة أيضا كباقي المهن؟
- نعم. بمجرد أن تطبع مشاعرك قصيدة على ورق معروض للبيع، اعرف أنك تبيع مشاعرك مثلما تبيع امرأة جسدها لقاء مكافأة. فقط الشاعر الذي يكتب في دفاتر خاصة به ولا يريها الى أحد، يكون الشعر بالنسبة إليه ليس مهنة. لكن هذا النوع من الكتابة ليس له سوى مفعول لذة أنانية وبهذا يصبح فعل استمناء.. وعليك أن تعرف أن أغلب الشعراء الرجال استمنائيون، فهم يكتبون أشعارهم إما قبل أو بعد استمناء ما... وليس كل استمناء يتم باليد، هناك استمناءات عبر النظر، الكتابة...الخ

- كيف تأتيك القصيدة؟
- أحيانا تجيء فكرة قصيدة في رأسي وأنا أنظر إلى الزبون وهو يروح ويجيء... اشعر احيانا بعطف عليه فتأتي القصيدة رومنسية بكائية، واحيانا أشعر بأنه مختلف وله ذكر ممتع، فتأتي القصيدة ايروسية مغرية... لكن تمر أحيانا عدة أسابيع ولا اكتب فيها قصيدة واحدة، وهذا يعني اني بعت جسدي لرجال جوف تفّه.

* هل في نظرك، كتابة الشعر له علاقة بالحرمان الجنسي، او أقصد بمكبوت جنسي يعانيه الشاعر او الشاعرة؟
- كلا... لكن، إذا كنت تقصد ان كتابة الشعر عملية استمنائية يقوم بها أناس ليست لهم لا القدرة ولا الفرصة لقضاء متعة جنسية مع امرأة أو مع رجل، فأقول لك نعم. وصحيح إذا كنت تقصد كتابة الشعر كتعويض جنسي. خصوصا في مجتمعات لا توجد فيه الحرية التي نتمتع نحن بها في أوروبا. انا استطيع بسهولة ان احقق رغباتي الجنسية وفي الوقت ذاته اقبض عليها مكافأة. إذن،عندما اكتب الشعر ليس تعويضا استمنائيا بقدر ما هو بحث عن عالم مجهول لذة غير معهودة، تأمل مع النفس: الشعر ولوج في الأعماق. والولوج عملية لايمكن لشخص يعاني حرمانا القيام بها.. وإنما الشخص المشبع والمكتفي ويريد المزيد، يريد سبر تجارب أعمق. لكن عندك حق في مجتمعاتكم...

- (قاطعتها) المتخلفة..
- نعم، كما تسمى عندنا على كل حال، أعتقد أن المرأة تكتب شعرا كتعويض عن جنسيتها المقموعة، وبالتالي حتى التعبير كتابيا يأتي مقموعا، مشوها...

* لعلمك في كراس من الكراريس التي كنت اطبعها على حسابي في باريس منتصف السبعينات، ضم قصائد لعدة شعراء عنونته: "القصيدة تحقيق مقنّع لرغبات مقموعة"، ما رأيك
- طبعا كالحلم... إذا اتفقنا مع العجوز فرويد.

- هل انت مؤمنة بدين ما؟
مولودة في عائلة مسيحية، لكنني لا أومن بأي دين... أجد فرحة اني أعيش في مجتمع عَـلماني.. يعطيني الحق أن آكل من الفاكهة المحرمة وأتلذذ بالخطايا السبع.

- لو طلبت منك شاعرة عربية تدعي الحداثة، نصيحةً، ماذا ستكون نصيحتك؟
-اولا مهما كنا بارعين في الانشاء وكتابة قصص مختلقة، هناك دائما شيء حقيقي منا يسري في كتاباتنا. لا اعرف كيف يمكن لإمرأة ان تكتب شعرا حديثا وهي غير قادرة على ان تكون حرة خصوصا في رغباتها الجنسية (والمرأة لا ترغب الا جنسيا، ولاحظ هذا عندما تمسك امرأة كأسا، وعندما تمص البوظة). كيف يمكن لكاتبة أن تكتب / تسبر غور جسدها وهو محجوب بالسواد أمام أعين الآخرين؟ جمال المرأة يكمن في النظرات التي تترصدها! نصيحتي إذا كنت غير قادرة على تحقيق رغبة عابرة وطبيعية، فانك غير قادرة مطلقا على كتابة شيء ذي قيمة. ليكن 40 بالمئة على الأقل مما تدعيه بالتحرر في كتاباتك، مطبقا فعلا في حياتك... وإلا اتركي القلم والورقة ومن الأفضل ان تتابعي الاستمناء الطبيعي أي ليس الاستمناء المجازي.

ونحن نتمشى قرب تمثال الساعات في محطة سان لازار، نظرت الى الساعة الكبيرة في أعلى المحطة، كانت الساعة الثانية بعد الظهر. الشمس مشرقة، شحاذون موزعون هنا وهناك، ازدحام سيارات. تذكرت أن لي موعدا مع الشاعر الأميركي جيروم روثنبرغ وزجته ليعطيني نسخة من كتابه "تقنيو المقدس" الذي ظهرت ترجمته الفرنسية. شعرت انها تتبادل نظرات مع رجل كان واقفا على بعد خمسة أمتار.. قلت لها: "قبل أن اتركك لدي سؤال واحد: من هو أفضل شاعر في نظرك؟"
- بودلير. إذ حتى في قصائده الرجولية المعادية للمرأة، يمكنك أن تشم رائحة المرأة، جواربها، جسدها، عطرها... بودلير هو الشاعر الوحيد الذي يكاد يكون حبره سائلا منويا يخصب الدماغ.

- وما رأيك ببروتون؟
أحب شعره وكتاباته... لكن المشكلة معه أن مشاعره الايروسية غالبا ما تتلاشى وراء انهماكه بالقضايا السياسية، والالتزام الخلقي. المهم انا أحب الشعر السوريالي كثيرا، لأنه يفتح نافذة على الأشياء الصميمية.

قالت جملتها الأخيرة وهي تكاد تصل الرجل الواقف، قلت لها بصوت عال: آمل أن تكتبي قصيدة جميلة هذا الفجر....

أجابت: أعتقد... أشم فيه سلفا الرائحة المطلوبة
جسد الإنسان يجب معرفة طقوسه
وفلسفته أرضه وكواليسه وأسراره
الجسد هو الحياة نفسها، بكل تجلياتها
الجسد هو المسافة الفاصلة بين الحياة و الموت