في بداية القرن السابع عشر عادت السفينة كلوف التابعة لشركة الهند الشرقية البريطانية إلى أوروبا بعد رحلة استكشافية إلى اليابان، وكان من ضمن ما تحتويه السفينة لوحات محلية تصور قصصًا غريبة وتحمل الكثير من المحتوى العاري. عرضت شركة الهند الشرقية المنتجات اليابانية التي جلبتها في مزاد، ولكنها أخفت هذه اللوحات العارية وصادرتها من قبطان السفينة ساريس، لأن عرضها كان يمكن أن يسبب إزعاجًا للمجتمع الإنجليزي المحافظ.
مع مرور العقود صارت الثقافة اليابانية مصدر ولع عند قطاع من الأوروبيين بشكل عام، وعاودت اللوحات اليابانية الجريئة الظهور في إنجلترا في القرن التاسع عشر، وكان من أشهر تلك اللوحات لوحة تحمل اسم "حلم زوجة الصياد"، وهي تصور أخطبوطًا يمارس الجنس مع امرأة. ألهبت اللوحة خيال المثقفين والكُتّاب الغربيين، لأنها ولدّت مشاعر مختلفة لديهم، وصفها الكاتب الفرنسي جوريس كارل هويسمانز، والمعروف بكتاباته الصادمة للمجتمع الفرنسي، بأنها لوحة مخيفة، وأضاف أنها تمثل التعبير البشري الأقوى للعذاب والحزن. في حين أكّد الكاتب الفرنسي إدموند دي جونكور، مؤسس الأكاديمية التي تحمل اسمه، على الرهبة التي تصدرها اللوحة، وقال إننا لا نعلم إذا كانت المرأة حية أو ميتة من قسوة ما تعانيه من الأخطبوط المخيف.
ورغم الولع باللوحات إلا أن التفسيرات الشبيهة بتفسيرات هويسمانز وجونكور كانت مقتطعة من سياقها، وأشارت إلى عدم فهم للثقافة اليابانية، وعدم معرفة بـ "فن الشونجا" الذي تُنسَب إليه تلك اللوحات.
كانت اليابان في بداية القرن السابع عشر تحت حكم سلالة "توكاجاوا"، وُعرِف هذا العصر بـ "فترة إيدو" تيمنًا باسم عاصمة البلاد آنذاك وهو موقع طوكيو حاليًا. نجحت سلالة "توكاجاوا" في توحيد اليابان فعليًا، وجعلتها مستقرة أخيرًا، ولكنها جعلتها منغلقة على نفسها، مقطوعة الصلات بالعالم الخارجي، استمرت "فترة إيدو" من عام 1603 حتى عام 1868، وفي هذه الفترة ظهر الفن الإيروتيكي الياباني "الشونجا"، وهي الكلمة التي تعني حرفيًا "صورة الربيع"، والربيع هو المصطلح الياباني المتداول الذي يعني الجنس.
كان فن الشونجا نابع من ازدهار حركة "أوكييو-إه" الفنية التصويرية باليابان، التي تهتم برصد المشاهد اليومية في حياة الناس، وكان يتم رسم اللوحات عن طريق الطباعة برسوم بارزة، حيث يتم نحت الرسوم على ألواح خشبية، غالبًا كانت من خشب "الكرز"، ثم تُطبع يدويًا على الورق. ورسم معظم فناني حركة "أوكييو-إه" لوحات "الشونجا" الإيروتيكية، إذ لم يكن إظهار العري أو تصوير الممارسات الجنسية محط انتقاد أخلاقي في ذلك الوقت في اليابان. وكانت اللوحات تباع لمختلف طبقات المجتمع.
الشونجا في كل مكان
في ذلك العصر كان اليابانيون يتبعو الديانة التقليدية "الشنتو"، التي ما زالت هي الاتجاه الديني المهيمن في اليابان حتى الآن، تقوم الشنتو على محاولة الاتصال بالماضي، وإبعاد الأرواح الشريرة عن طريق تقديس "الطبيعة" ومكوناتها، ويتضمن ذلك تقديس "الخصوبة" و "الولادة"، بالتالي كان يتم تقديس الأعضاء التناسلية للإنسان والحيوان. لذلك لا يدهشنا أن تنتشر لوحات الشونجا بين اليابانيين في ذلك الوقت، حتى أن اليابان تعتبر الحضارة الوحيدة التي كانت الرسوم الإيروتيكية فيها ثقافة سائدة، لا مضطهدة ولا هامشية.
بالإضافة إلى ذلك اُعتبرَت اللوحات تعويذات ضد الموت، إذ كان يحملها مثلًا محاربو "الساموراي" لمواجهة خطر الاحتراق، وتقول "أوتا نابو" إحدى المالكين للوحات "الشونجا": "لو جمعت هذه النوعيات من اللوحات سينتهي خطر موتك حرقًا".
كما اعتبر البعض "الشونجا" وسيلة تعليمية للمقبلين على الزواج، وكان من التقاليد الشائعة أن تهدي العائلة لوحات الشونجا إلى الرجل (أو المرأة) إذا اقترب موعد زواجه، أو كهدية الزواج. وعوملت بعض اللوحات الأخرى كتعبير عن المرح أو الصدمة أو توسيع الخيال فقط، والنمط الأخير تضمن رسوم غريبة اشتملت على ممارسة الحيوانات للجنس مع البشر، كما كان الحال في لوحة "حلم زوجة الصياد" للفنان كاتسوشيكا هوكوساي التي تصور الأخطبوط وهو يمارس الجنس مع امرأة، أو أن نشاهد لوحة تصوِّر قطًا يعبث بخصيتي رجل أثناء ممارسة الجنس مع امرأة. وعادة كان يصاحب اللوحة وصفًا مكتوبًا أو حوارًا يشرح تفاصيلها.
بالطبع كان أحد أسباب انتشار "الشونجا" أيضًا هو تحقيق المتعة الشخصية، بدلًا من الحاجة للتردد على بيوت البغاء مرتفعة الأسعار، هذا الذي جعل البعض يعتبر هذا الفن أحد أصول البورن. ولكن يمكن ببساطة أن نكتشف اختلاف "لوحات الشونجا" عن منتجات البورن الحالي، إذ "كان يميل الرسامون إلى نقل حالة الحب والحسية الشديدة بين الرجل والمرأة، والمتعة المشتركة بينهما في لوحاتهم"، يمكننا أيضًا أن نرى حالات متنوعة في هذه اللوحات للمثلية الجنسية، وفي بعض الأحيان يصعب تحديد نوع تلك الشخصيات، كما يرى المشاهد للوحات شخصيات أجنبية، كانوا غالبًا من البرتغاليين أو الهولنديين أو البريطانيين، الذين كانوا يذهبون لليابان بكثرة في هذه الفترة للتجارة. وكل هذا يوحي بالسعي للوصول إلى حالة عالية من تقديس الجنس والحب والخيال.
حلم هوكوساي
"رجل عجوز مجنون بالرسم" هكذا كُتِب على قبر الفنان الياباني "كاتسوشيكا هوكوساي" أبرز فناني الشونجا، والذي كان له تأثير كبير على العديد من الفنانين الأوروبيين، إذ احتفظ بأعماله فنانون كبار مثل ديجا وفان جوخ ومونيه. امتدت حياة هوكوساي لمدة 89 عامًا. وكان وُلد لابن صانع مرايا، الذي ربما تعلم منه أساسيات الرسم، إذ كانت المرايا تضم رسومًا، وعمل في صباه كصانع كتب ذات ألواح خشبية، وهي كانت طريقة شائعة في اليابان في زمنه. تنقّل هوكوساي وعاش في أكثر من 93 مكان في حياته، وغيّر اسمه أكثر من 30 مرة، وكان تغيير الاسم شائعًا بين فناني اليابان في ذلك العصر.
يعتبر هوكوساي أهم فناني حركة "أوكييو – إه" التي اشتهرت في الغرب بسبب لوحته الأيقونية "موجة كانجاوا الكبيرة" ضمن سلسلة رسومات "مشاهد جبل فوجي الستة والثلاثين".
شارك هوكوساي في رسم لوحات "الشونجا" ولكن أشهر لوحاته بها كانت "حلم زوجة الصياد" المذكورة بالأعلى، والتي رسمت عام 1814، وحملت عدة أسماء مثل "الفتاة الغواصة والأخطبوط" وغيرها من الأسماء التي تحمل نفس المعنى، وما زالت تثير في نفس من يراها العديد من الأسئلة حول الحدود بين التقزز والخيال في فن "الشونجا"، ولكن البعض يرى أن الموضوع أبسط من ذلك، وإنها إشارة إلى قصة الأميرة تاماتوري التي كانت منتشرة في فترة إيدو، وهي الأميرة التي حاربت ريوجن (الإلة التنين) في البحر، إذ تدور القصة حول "ريوجن" الذي سرق جواهر زوجها الأمير إيمباركس، فذهبت الأميرة تاماتوري التي كانت غواصة قبل أن تصير أميرة عبر البحر، ونجحت في الوصول إلى قصر الإله "ريوجن" وتجاوزت معاونيه من كائنات البحار، ثم عزفت موسيقى لينام التنين، ولكن عندما اكتشف التنين انها سرقت الجواهر أمسك بها، فقطعت ثدييها لتضع الجواهر مكانهما، ونجحت في السباحة والهرب سريعًا ولكنها ماتت بمجرد وصولها إلى الشاطيء.
اختلفت القصص بالطبع حول الأميرة تاماتوري، فالقصة المذكورة تروي قطع ثدييها والموت، في لوحة "هوكوساي" تظهر إشارات مختلفة إذ تمارس تاماتوري الجنس مع الأخطبوط الذي يسألها عن شعورها بعد مداعبتها بثماني أذرع.
ولكن تأثير اللوحة على الفن الغربي، جعل فنان كبير مثل الأسباني بابلو بيكاسو يرسم نسخته الخاصة من "حلم زوجة الصياد" عام 1903، ليُظهِر أخطبوطًا يعبث بأعضاء تناسلية لامرأة.
إلى جانب هوكوساي رسم العديد من فناني حركة "أوكييو - إه" لوحات الشونجا، وتباينت رؤى الفنانين إذ ركز الفنان "ياناجاوا شيجينوبو" في رسومه على فتيات "الجيشا" اليابانيات، سواء برسمهن فقط، أورسم ممارسة الجنس معهن من قبل الرجال ثقيلي الوزن. في حين ركّز الفنان "أيسون" في لوحاته على رسم "الفتيات الجميلات" فقط، وكانت شخصياته كبيرة الرأس وذلك من خصائص حركة "أوكييو – إه" في رسم البورتريه.
في حين اهتم الفنان "ماياجاوا إيشو" برسم مصارعي "السومو".
مسخ الإيروتيكا
مع بداية القرن العشرين وفي حين صارت الثقافة الغربية أكثر جرأة في التعامل مع الموضوعات الإيروتيكية، صارت الثقافة اليابانية محافظة في هذا الاتجاه، وفي عام 1907 منع القانون الياباني تصوير الأعضاء التناسلية وعرضها بشكل واضح.
ولكن مع ذلك ظلت عناصر هذا الفن متغلغلة في الثقافة اليابانية والعالمية. ويعتبر البعض أن "الشونجا" هي جد رسوم الأنيمي والمانجا اليابانية الحالية، خاصة نوع "الهنتاي" الحديث، و"الهنتاي" كلمة تعني حرفيًا "التحول"، والنوع الذي يحمل الاسم يشير إلى الرسوم الجنسية اليابانية، والتي تتميز كفن "الشونجا" بالخيال المبالغ فيه، الذي يصل إلى حد التقزز أحيانًا، ولكن رغم تناول "الهنتاي" لأفكار جنسية غريبة فهو نوع يخلو من الجودة أو وجود أسماء عظيمة مثل هوكوساي أو غيره من فناني "أوكييو - إه".
ولكن يمكننا أن نلمح أيضًا تأثيرات "الشونجا" في أعمال فنية إيروتيكية حديثة لا تصنف على أنها "بورن" مثل أعمال الرسام "يوشافومي هيمياشي".
وكذلك في عام 2016 استخدم المخرج الكوري الجنوبي بارك شان ووك، الحاصل على السعفة الذهبية من مهرجان كان عام 2003، عناصر من فن الشونجا في فيلمه الأخير "الخادمة" استخدم فيها تصويرًا سينمائيًا لمشهد مشابه للوحة "حلم زوجة الصياد".
ومنذ ثلاث سنوات أقام المتحف البريطاني معرضًا يضم لوحات "الشونجا"، وهذا يشير إلى عودة الاهتمام بهذا الفن، ويشير أيضًا إلى أحقية النظر إلى هذا الفن واستخدامه بصور حديثةـ لا الاكتفاء بتأثيره على رسوم مثل "الهنتاي"، كما يشير فن الشونجا إلى أهمية الفن الإيروتيكي في كل المجتمعات، كأحد التعبيرات على ثقافة أي حضارة، وأن هذا الفن يستطيع أن يحيا مهما تعرض للمنع أو لسوء الفهم.