إيروتيكية الشِّعر والشِّعر الإيروتيكي
مهدي نصير*
هناك مزجٌ غير بريء بين مفهومي ايروتيكية الشِّعر بما هو حالة إبداعية صافية وحقيقية
وتحتوي على
فعل خلق جديد وبين الشِّعر الإيروتيكي بما هو حالة تعبير عن الإيروتيكية
الإنسانية كحالة شعرية سامية وقد تمتزج ايروتيكية الشِّعر بالإيروتيكية
الإنسانية وقد لا تمتزج .
بدايةً لا بد
من الحديث عن الإيروتيكيا كسلوك للطبيعة للاستمرار والتطوُّر ومواجهة الموت
والخراب ، واللغة كائنٌ حيٌّ ينتمي للطبيعة، فهي تنمو وتهرمُ وتمرضُ
وتتوالد وبها أجيال مختلفة من الطفل للشاب للرجل والعجوز الهَرم، وهي في
حالة حركة دائبة بين حزن وفرح ومرض وولادة وموت .
كان العرب
قديماً يُسمُّون الشاعر المبدع فحلاً، وهذه التسمية ليست عشوائية بل
استيعاب عميق أن العلاقة بين الشِّعر والشاعر ( بين اللغة والشاعر الحقيقي )
هي علاقة خلق جديد لعلاقات وولادة لكائنات ( خطاب) لغوية جديدة، ولا يتم
هذا الخَلق في الطبيعة إلا عبر الفعل الجنسي الذي لا يمكن تزييف،ه وصنع
نظائر مكررة له مفرغة من القدرة الفعلية على الخلق والتجدُّد .
فلا يكون
إزهار للطبيعة إلا بفعل التلاقح الذي تقوده الطبيعة برياحها ونحلها ومطرها،
ولا تتم الولادات الحيوانية والإنسانية إلا بفعل جنسي ترعاه الطبيعة
والغرائز \ولا تتم القصيدة الحقيقية إلا بفعل شبيه لولادةٍ حيَّةٍ قابلة
للنمو والحياة .
وعندما نقول
قصيدة قابلة للحياة، فنحن نعني أن مولودها الطفل قابلٌ للنمو والتأثير في
الخطاب العام للتاريخ والدخول كمكوِّن يقوم بدور الإحلال للخطاب القديم
ويمنح للتاريخ أنساغاً لرؤية جديدة، ويبلبل الخطاب السائد ليحلَّ محله،
وليكبر ويهرم بدورهِ ويحل محله كائن شعريٌ طفل جديد في حركة جدلية دائبة
بين التاريخ، والشِّعرية الإنسانية الباحثة دوما عن دفع الحياة الإنسانية
نحو قيم الجمال الحقيقية للحياة، والطبيعة، والإنسان، أما القصيدة التي لا
تملك القوة (الايروتيكية) للجدل مع التاريخ، وخطابه السائد، وتزحزحه باتجاه
خطابها الجديد فهي قصيدة عنينة ومكرَّرة، أو هي تعيد خطاباً سائدا لا جديد
ولا خلق فيه ، فالقصيدة غير القادرة على إخصاب خطاب التاريخ والدخول في
جدل وجودي معه هي قصيدة تُعيد إنتاج خطاب عنين وميت .
لذلك فهناك
قصائد كثيرة في التاريخ الشِّعري تمتلك ايروتيكية الشِّعر وهي ليست قصائد
ايروتيكية، وهناك قصائد كثيرة أيضاً ايروتيكية الشكل ، لكنها لا تمتلك
ايروتيكية الشِّعر لذلك لم تترك أثراً في خطاب التاريخ الفعلي .
والمقاربة هنا
ليست مقاربة فرويدية متعلقة بالجنس باعتباره المحرك الأساسي للسلوك
الإنساني \ المقاربة تتحدث عن سلوك حيوي، وحي للغة وعن قيمة طبيعية،
وإنسانية مجردة من حضورها السيكولوجي الذي تحدث عنه فرويد، كما ويمكننا
تأسيساً على ما سبق أن نتحدث عن علم نفس للغة، وعلم أمراض اللغة وطقوس
ولادات اللغة وطقوس موت اللغة والتي لم يتحدث عنها أيٌ من علماء النفس أو
أيٌّ من اللسانيين واللغويين , هذه المقاربة تفتح أبوابا كثيرة، وعظيمة في
قراءة اللغة والتاريخ والشعر والمجتمع والثورة والخنوع والمذاهب والقتل
والإقصاء والسائد والمسكوت عنه والأصيل والمزيَّف .. الخ .
اللغة ككلِّ
كائنات الطبيعة الحيَّة تتوالد وتتطور عبر الفعل الجنسي، فلماذا لا تكون
للغة القدرة نفسها وتنتمي لهذه العائلة، وتمارس قدراتها وجيناتها \لماذا لا
تزهر اللغة وتبرعم وتثمر كباقي كائنات الطبيعة ؟ سؤال مشروع ويفتح الباب
لمقاربات أخرى لهذا الكائن الهَش، والمفعم بالقوَّة والحيوية والذي يتعرَّض
عبر دهاء التاريخ في اللعب باللغة لمحاولات تقليده واحتلال مكانه وعبر فعل
( لا أملك في هذا السياق إلا أن أُسمِّيه شذوذا لغوياً ) .
وباستخدام لغة
ابن عربي فإن القصيدة، إذا لم تكن ايروتيكية لا يُعوَّل عليها \
وايروتيكية هنا تعني منتمية للطبيعة في فعلها اللغوي، وليست إباحية أو
خلاعية وليست إيروتيكية بشكلها، وإنما بمعنى قدرتها على القيام بفعل جنسي
مع التاريخ .
وإذا عدنا
قليلاً للقصيدة الايروتيكية العربية المعاصرة، فسنجد أن قصيدة نزار قباني
تحديداً في ايروتيكيتها الحقيقية أوَّلاً ثُمَّ في تناولها لوضع المرأة
العربية، استطاعت أن تتحاور وتتجادل مع السائد وأن تؤثِّر في أجيال عديدة
للمرأة العربية، والإنسان العربي في اتجاه خلق وعي مُغاير يتجادل مع الوعي
السائد ويحاول أن يحلَّ محلَّه .
نقطة أخيرة لا
بدَّ من الإشارة إليها وتتعلق بالحرب الشرسة التي كان يُواجه بها الطفل
الوليد من ايروتيكية شعرية حقيقية، بحيث تمَّ إقصاء وتهميش وتدمير هذه
المواليد لصالح الولادات المشوَّهة , والنماذج على ذلك كثيرة في تاريخ
الشعر العربي ( المعرِّي وأبو نواس والمتنبي نماذج يمكن قراءة آليَّة
الإقصاء والحضور التي مورست على نتاجهم وأليَّة الإخفاء لهذه المواليد عبر
أساليب لغوية أفقدتها الكثير من ايروتيكيتها وقدرتها على خلق جدل فعلي جديد
مع التاريخ ) .