ينطلق فى محراب جسد
من أن هناك معبداً وحيداً حقيقياً على هذه الأرض، هو جسد الإنسان يجب معرفة طقوسَ هذا المعبد وفلسفته، أرضه وكواليسه وأسراره، جنونه وفجوره وهلوساته، حقائقه وأقنعته وأكاذيبه، صوره وظلاله وتجلياته، الجميلة منها والبشعة، الملموسة والمجرّدة، الحسيّة والروحانية على السواء، في تصميمٍ مثقّفٍ ورصينٍ وعارف وعنيد على كسر أغلال المحرمات - توقاًً إلى أعلى سماءٍ للحرية بستحقها يد كل كاتب وعالم وفنان في هذه الحياة.

منفذ للهروب




 حميد المختار

 كنت أبحث عن منفذ للهروب من ضجيج الشارع، ثمة أصوات عالية ومسيرات لشباب صاخب وإيقاعات مدوية أغرقت الشارع باضطراب وإرباك..قلت لابد من الهروب والاختباء في ملجأ يحميني من القبح وفداحة العنف. ولجت  إلى قاعة ممتلئة بالجمهور، سمعت صوتاً لامرأة يعلو من على منصة بعيدة ويتناغم مع عزف لعود منفرد ينوء بثقل جمال مقدس، شكّل العزف الهادئ خلفية للقراءات، كانت الشاعرة تحلّق في ذروة شعر منحني شيئاً من الدفء  والهدوء محاولاً أن يصنع لنا جميعا حياة قابلة للعيش، القصائد جميلة وأنا يكفيني هذا القدر من الجمال، والجمال هو الآخر ليس بعيداً عني إلا مسافة قبلة أو قبلتين.
المرأة والقصيدة وجهان لكائن الوجود الواحد ذلك الذي يرقص على شرفة الجمال، وأنا المتوحد القادم من عمق الحدائق السرية كيف لي أن أحافظ على سيرورة هذا الشعر المتدفق كالشلال؟ 
 كيف أخفيه عن العيون؟ ثمة أنانية واضحة للامتلاك لا يمكن لي أن اخفي جمال الشعر، الذائقة هي الأخرى تطمع في التهام كل ما تسمع وتحاول أن تخفيه في جعبة اللاوعي، حيث تكمن ذكريات القصائد الأولى، ما أروع أن أرى قلباً يرسم امرأة بألوان الروح، وهي تحمل إضمامة من الشعر والزهور، يبدو لي أن جميع القصائد التي كتبها شعراء العالم أناث يسكنن الكلام وخلاصة الكلام، وعطر الشعر امرأة تمكنت من صنع جناحين قادرين على حملنا بعيداً عن موطن الآلام والغضب حيث الناس مازالوا يلتحفون بأغطية مخدرة وهم ينتظرون نهاية ما ...آه لو ان هذا النعاس بأشجاره العالية الباسقة يحملنا بدوره وسط أشجار الشعر بعيداً عن أنين الموتى، هل الشعر قادر على مجابهة الموت؟
 أنا أقول إنه قادر تماماً على هذه المواجهة لأنه يستطيع أن يهبنا تلك القدرة على صنع الحياة، الحياة التي تحتوي هي الأخرى على قدرة خارقة لمواجهة الموت، لذلك فقد وجدنا أنفسنا عراة في قرارة موجة صاخبة على شفا غرق قادم ونحن ممسكين بزناد يقدح لهبا في ظلمة دامسة، هل رجحت كفة ميزان الظلمات؟ الشعر أيضاً سيكون طاقة في كفة  ميزان الجمال والعدالة والحق.يقول أحد الشعراء:
عندما تتطلع من حولك فترى حصاد الأقدام في كل مكان وأيدي ميتة في كل مكان، وعيوناً معتمة في كل مكان، عندما لا يكون بإمكانك بعد ذلك وقد تناهى إلى سمعك الصراخ، بل عواء الذئب أن تختار حتى الميتة التي أردتها لنفسك.
هنا يجدر بنا أن نفيق من غفوتنا وقد احتوانا صولجان الشعر وثمة صوت ساحر لأنثى تبوح لنا بأسرارها وتدعونا ان ندخل ممالكها الغامضة ..
  انها الشاعرة آمنة عبد العزيز وهي تقف على منصة الشعر في المنتدى الثقافي البغدادي في شارع المتنبي، حقا لقد نسيت الصخب ونسيت الضجيج القادم من الجموع التي احتلت جنبات الشارع ولم يبق إلا صوت الشعر الذي سيعلو على صوت آلات الموت وسيصّم بالتاكيد آذان القتلة في كل مكان ،وستكون الساحة خالية إلاّ له، إنه السائد الرائد الذي يمنح الوجود فرحا وغناءً وسعادة،  ذلك هو الشعر القادر على انتشالنا من كبوة ميتاتنا المتوالية إلى ربوة حياتنا الحافلة بالأمن والجمال..
  يالها من سعادة وأنا أنام بين يدين حانيتين لأنثى والشعر والعطر.
جسد الإنسان يجب معرفة طقوسه
وفلسفته أرضه وكواليسه وأسراره
الجسد هو الحياة نفسها، بكل تجلياتها
الجسد هو المسافة الفاصلة بين الحياة و الموت