ينطلق فى محراب جسد
من أن هناك معبداً وحيداً حقيقياً على هذه الأرض، هو جسد الإنسان يجب معرفة طقوسَ هذا المعبد وفلسفته، أرضه وكواليسه وأسراره، جنونه وفجوره وهلوساته، حقائقه وأقنعته وأكاذيبه، صوره وظلاله وتجلياته، الجميلة منها والبشعة، الملموسة والمجرّدة، الحسيّة والروحانية على السواء، في تصميمٍ مثقّفٍ ورصينٍ وعارف وعنيد على كسر أغلال المحرمات - توقاًً إلى أعلى سماءٍ للحرية بستحقها يد كل كاتب وعالم وفنان في هذه الحياة.

فى 11 دقيقة جنس بلا دنس / بقلم : محمد الرائق



باولو كويلوا الذي كتب ساحر الصحراء وفروينكا تقرر أن تموت ومحارب النور.. وكلها روايات تركز على الجانب الروحاني داخل الانسان وطاقاته الكامنة ومثل هذه الأشياء التي يعرفها الجميع عن كتاباته.. هذا الرجل حين يكتب عن الجنس فهو بالتالي يقصد أن يقول شيئا ما..

هو نفسه يعرف ذلك.. ويدرك أنه في ورطة مع جمهوره.. هو يراهن على مبيعاته السابقة ويقدم شيئا مختلفا، ولعل ذلك ما جعله يهدي الرواية لقارئ مغمور له قابله صدفة في كنيسة بفرنسا وسأله.. هل تعرف باولو كويلو.. أنت تشببه كثيرا..

وحين أخبره باولو أنه هو المقصود، استضافة القارئ في بيته وأخبره أنه هو وأولاده وأحفاده تعلموا الكثير من كتبه.. أهدى كويلو الرواية لهذه العائلة.. قائلا.. "أعذروني أني لا أكتب ما تريدون.. أنا أكتب فقط ما أريده أنا"..

ورغم كلاسيكية الجملة.. وكونها تعبر عن حق الكاتب والمبدع والفنان في التعبير عن نفسه لا في تقديم ما يرضي جمهوره.. رغم أن الجملة بسيطة ومكررة ومقروءة من قبل لآلاف المرات.. إلا أنها تلاقي مع باولو كويلو حالة خاصة جدا.. كونه حقق انتشار لم يحققه أي منافس له.. وكونه تخصص في مساحة بعينها.. يصعب على أي قارىء بعد ذلك أن يستوعب أن ينتقل كاتبها للكتابة عن نقيضها تماما.. الجنس!

ماريا.. والتي تكتشف في نهاية الرواية أنها شخصية حقيقية من لحم ودم تعيش في مكان ما بفرنسا، هذه الفتاة البرازيلية الأصل، والتي كانت تعيش في قرية صغيرة في البرازيل، عاشت مراهقتها كلها في انتظار أن يتحقق حلمها وأن تنتقل للعيش لمدة بسيطة في العاصمة ريو دي جانيرو وترى ماذا يفعل الناس هناك وتنزل البحر وهي ترتدي البكيني..

وقد عملت في مصنع خياطة لمدة عامين لتتمكن من جمع ثمن الرحلة.. وفي المرة الأولى التي نزلت فيها إلى البحر قابلها أجنبي سويسري لم تفهم من لغته أي شيء سوى أنه معجب بجمالها ولديه عمل لها يمكن أن تجني منه دولارات..

تسافر إلى سويسرا.. تعمل كراقصة للسامبا لأسبوعين.. بعدها يتم طردها من المحل لأنها التقت برجل عربي عرض عليها قضاء ليلة واحدة معها نظير ألف فرانك سويسري.. ووافقت بالفعل.. واكتشفت أن الأمر سهل جدا..

باولو يخبرنا في الفصول الأولى من القصة عن التجارب الجنسية الساذجة التي عاشتها ماريا قبل أن تصل إلى جنيف.. ثم تتطور تجاربها من الليلة التي تقابل فيها العربي الثري.. لتكتشف أنها رغم فقدانها لعملها في لحظة، إلا أن هناك مهنة أخرى قد تدر عليها من الربح ما يكفيها أن تعيش "حياة كريمة"..

متناقضة هي ماريا، تقبل أن تعيش أكثر أشكال الحياة انحطاطا لتكفل لنفسها حياة كريمة في المستقبل.. تراهن بحاضرها على مستقبلها.. وبمنتهى الحذر..

تخبرها صديقتها أن الدعارة مثل المخدرات، لن تستطيع أن تتوقف بعدها.. لكن ماريا تحدد منذ البداية أنها ستكون عاهرة لمدة عام واحد تعود بعدها إلى قريتها الصغيرة وتتزوج من صاحب مصنع الخياطة وتشتري مزرعة كبيرة وبهائم وتعيش فيها مع أمها وأبوها..

تدخل ماريا إلى شارع برن، وهو شارع الدعارة والملاهي الليلة في جنيف.. تدخل إلى هناك بكل حسم وثقة.. وبكل سلاح تمله.. ذهبت إلى المكتبة العامة واستعارت كل الكتب التي تتحدث عن الجنس.. وكونت خبرة لا بأس بها بعد أن شاهدت عشرات الشرائط من أفلام البورنو.. وبعد تسعة أشهر من العمل.. فكرت أنها وصلت لنظرية ما في الجنس.. اسمها.. إحدى عشر دقيقة..!!

تقول ماريا أن الإحدى عشر دقيقة التي نمارس فيها الجنس هي الدقائق الأهم في الحياة، وتنظر لذلك من خلال حكاياتها مع زبائنها.. تقابل رجال من أنواع مختلفة.. وتفتخر أنها الوحيدة من بين نساء الأرض القادرة على أن تمارس الجنس مع ثلاثة رجال يوميا.. بشرط أن تستحم بين رجل وآخر.. وألا تسمح لأي رجل بتقبيلها.. لأن القبلات تفتح الباب أمام الحب.. وهي واضحة منذ البداية.. الجنس متاح.. لكن ممنوع الحب..

هي قررت أن تبيع جسدها لمن يريد.. على أن تحتفظ بحق استخدام روحها لنفسها فقط.. ومن خلال يومياتها ستكتشف أن داخل ماريا روح عذراء لم تفقد عذريتها مع فقدان عذرية الجسد.. إنها تملك نظرية خاصة في الحياة.. رغم أنها مازالت لم تبلغ عامها الثاني والعشرين..

في حجرتها تضع روزنامة أوراق.. تقطع كل يوم ورقة عليها تاريخ اليوم.. وتحسب الأيام الباقية التي حددتها لتكون قد أكملت عام في شارع برن وبالتالي تنفذ ما قررته من قبل وتعود للبرازيل.. خاصة وأنها ستكون قد جمعت مبلغ لا بأس به من المال يجعلها قادرة على تحقيق أحلامها في البيت والمزرعة والزوج والأبناء والأحفاد..

باقي فقط ستة أسابيع وتعود ماريا من حيث أتت كما تقول الروزنامة، وفي لحظة ما عادية جدا.. تقابل رالف.. الرسام الذي يخبرها أنه يرى في وجهها نور يجعله مصر على أن يرسمها.. ويكون كما تقول ماريا في مذكراتها هو الرجل الأول الذي ينظر إلى روحها لا إلى جسدها!

تعيش معه خلال الستة أسابيع الباقية تجربة مختلفة.. تقابله كثيرا دون أن يلمسها رغم أنها اعترفت له بمهنتها.. وبعد اللقاء تذهب لعملها لأنها تحتاج المزيد من النقود.

تتكون بينهما علاقة عجيبة.. هو يكره الجنس.. ويطلب منها أن تعطيه خلاصة تجربتها.. وهي بدأت تحبه لأنه الوحيد الذي نظر إلى روحها.. ولأنها مقتنعة أن علاقة الأرواح هي البداية المناسبة لعلاقة الأجساد.. وهو ما يتحقق في نهاية الرواية بمشهد مثير جدا يكتبه باولو بخبرة وحنكة وتفرد..

وتنتهي الرواية بنهاية سعيدة لكل الأطراف.. ماريا ورالف وأنت القارئ.. وربما باولو أيضا..

تنتهي الرواية بسرعة بين يديك.. لكنها بالتأكيد ستشغل في بالك حيز ووقت أكبر..

رواية جنسية بالكامل.. لعلك لم تقرأ واحدة من قبل.. ارشادات جنسية واضحة.. لا اشارات.. بل ألفاظ دقيقة ووصف أدق لعالم كامل من الجنس والدعارة والعهر تصنعه ماريا بازدواجية غريبة بين الجسد والروح..

في إحدى عشر دقيقة تكتشف أن الدرس الأول هو أنك لا تعرف الكثير عن نفسك.. وأنك بحاجة حقيقية لأن تنمي مداركك وتوسع عقلك في هذا المجال.. لكنك في الوقت ذاته ستكتشف أن هناك طرقا أخرى لفهم الجنس غير أفلام البورنو والمجلات الإباحية.. بل أن ماريا تقول في نصائحها أن الأفلام والمجلات يقدومون جنسا وهميا لا يمارسه البشر.. فلا توجد فتاة بهذا الشكل.. ولا يوجد رجل بهذا القدر من الفحولة ولا يمكن أن تتكون علاقة بمثل هذا الوضع إلا في السيرك..

بمنتهى الأدب يدخل باولو في المناطق المحظورة في عقلك وحياتك.. ويخبرك بالكثير الذي لم تعرفه من قبل.. والذي ستكتشف أنك في حاجة حقيقية لأن تعرفه..

هو بالطبع لا يدين ماريا.. لأن بيئته لا تحمل لها أي إدانة.. الغريب أنك أنت أيضا بمزيد من القراءة في الرواية ستكتشف أنك لا تدينها بأي حال.. لأنها كانت واضحة من البداية.. ولأنها لم تجد في ديانتها ما يمنعها من أن تفعل ذلك ببساطة تحسد عليها..

ستجد هناك أيضا اعترافات لزواجات خائنات.. ولساديين من طراز فريد.. وسيحلل باولو نظرية "الكونت دو ساد" صاحب المدرسة السادية، ومنها ينتقل إلى فرويد ونظرياته عن جسد المرأة.. ثم سيخبرك بأن هناك في جسد المرأة أشياء لم يكتشفها العلم إلا في القرن الماضي.. وبالتفصيل سيخبرك بالمزيد..

أنا مثل استاذى
باولو كويلوا لا أؤمن بفكرة الممنوع، ولأن أكثر الكتب التي تعلقت بها في حياتي هي الكتب التي شممت من خلفها رائحة منع أو حجب أو مهاجمة..

إحدى عشر دقيقة.. رواية تحرك مائا راكدا في بحيرة "الجنس" البشري.. وللجنس هنا أكثر من معنى..!
جسد الإنسان يجب معرفة طقوسه
وفلسفته أرضه وكواليسه وأسراره
الجسد هو الحياة نفسها، بكل تجلياتها
الجسد هو المسافة الفاصلة بين الحياة و الموت