ينطلق فى محراب جسد
من أن هناك معبداً وحيداً حقيقياً على هذه الأرض، هو جسد الإنسان يجب معرفة طقوسَ هذا المعبد وفلسفته، أرضه وكواليسه وأسراره، جنونه وفجوره وهلوساته، حقائقه وأقنعته وأكاذيبه، صوره وظلاله وتجلياته، الجميلة منها والبشعة، الملموسة والمجرّدة، الحسيّة والروحانية على السواء، في تصميمٍ مثقّفٍ ورصينٍ وعارف وعنيد على كسر أغلال المحرمات - توقاًً إلى أعلى سماءٍ للحرية بستحقها يد كل كاتب وعالم وفنان في هذه الحياة.

خارطة الجسد ... ابراهيم فرغلى


خارطة الجسد

 
إنتهيت الآن ..

قالت لي بنبرة هامسة. جاءني صوتها مثل صوت كابوسي يأتي للغارق في حلم من تلك الأحلام الملغزة التي تلغي حواجز الزمن وتستبق الجن في استحضار كل من لا يبدو وجودهم في الحقيقة ممكنا، أمواتا وأحياء..

قلت: لا لا يمكن..بصوت لم يسمعه سواي.

ابتعدتْ عن السرير، ثم خطت خطوتين باتجاه المنضدة المجاورة تتناول خواتمها وأساورها. قلت لها أن تغلق الباب خلفها...

لكن كأن الشخص الذي طلب منها إغلاق الباب لم يكن سوى شخصي العقلاني، بينما الآخر الحسي، فكان يهمس منفجرا بصراخ لا يسمعه أحد : لا، لا يمكن لها أن تذهب بهذه البساطة .

استعدت إحساسي بكفيها على جسدي.. لا لم يكن ذلك مجرد تمسيد بريء لجسدي، ولا حتى إشارات حسية متعمدة، بل كانت تضع شفرات خاصة، على أرجاء جسدي لأتعرف عليه. كنت أشعر بأنني أمتلك جسدا لأول مرة في حياتي. فهل تعرفت هي عليه أم أنها تعرفه؟

جسدي قرية دمشقية، كما تقول قصيدة معاصرة، بل مدينة عالمية، تمتليء بدروب وأزقة وحارات، وشوارع واسعة .. جسدي، تحت كفي هذه الفتاة..الأنثى..المرأة..بل الإنسانة، أصبح يضج بحياة لم أعرفها قبلا. بات مدينة تمتليء بالأحاسيس، مدينة لها قلب من تلك المدن الحلم، لا مدينة ميتة كالتي نحيا فيها.

جلستْ أسفل ظهري، وضعت فخذيها حول ردفي وركبتيها حول خصري. بدأت طقوس التمسيد بالكتفين والرقبة ثم الظهر. ليست يدا عمياء، البتة، بل هي بصيرة، تشبه العرافات الضاربات في العمر، اللائي يمتلكن القدرة على تتبع مسارات النجوم..على التحدث للأشباح ورؤيتها.

يدان عارفتان، شابتان، نضرتان، ناعمتان، قويتان، وهذه واحدة من معجزتيهما الصغيرة. تتحسس بأناملهما الجسد كأنها تفتش عن المعطوب: تصل بدربة للعضلات المتعبة المتخشبة، في الظهر واسفل الكتفين، مهما بلغت دقتها. تمسك بها، وتمن عليها بدفق من التربيت والتدفئة والشد والجذب، ولا تتركها إلا وهي تضج بالحياة. كنت أتكشف مع كفيها ما لا أعرفه عن نفسي. عضلات صغيرة بين الكتف والظهر، وأخرى بين الخصر وأسفل الظهر، بل وفي الكتف نفسه، الذي كنت أظنه لا يضم اكثر من عضلة أو اثنتين أمسكتْ بذراعي، ووضعته خلف ظهري، ثم فتحت كفي، واضعة ظهره على إحدى ردفيّ، ثم ثبتت بطن الكف بكفها الرقيق الناعم الذي يتوسد كفي وتركت الكفين يتعانقان،أما كفها الآخر فقد تتبعتْ ، عبر أنامله، عددا من العضلات التي يكشفها وضع ذراعي المقلوب، فتدب فيها الحياة واحدة بعد الأخرى.

بارعة، كنت أردد لنفسي، لكن ما كان يصل ليدي المستريحة على ردفي، المثبتة تحت كف يدها الملتصق بكفي، كان أكثر من البراعة، ثمة خطاب عاطفي تتداوله الأصابع العشرة المتقابلة التي تنام كل منها على رفيقة لها.  ثبات رخو، بينما يبدو تمسيد عضلات الكتف باليد الأخرى ليس سوى استدعاء لجوقة موسيقية صاخبة؛ بافتراضها تعزف في حديقة للحواس.

 غفوت، وحين استيقظت كانت حواسي  جميعا منتبهة ومتهيأة لاستعادة الأحاسيس الباطنية الغامضة التي تسببت فيها تلك الفتاة. تشككت للحظات من الإشارات الخاطئة التي تنفجرأحيانا من اللاوعي، في غفلة من وعي غاف، في تلك المساحة الزمنية التي تفصل ما بين النوم والدقائق الأولى لليقظة، لكن الشعور ذاته كان يترسخ ساعة بعد أخرى، وهكذا كنت أتيقن من أنها خبرة جوهرية أخرى في مخزن خبراتي.

كانت كفها تنقل لي إشارة لم أعرفها قبلا، وتفتح لي بابا جديدا يسري بين كفي وقلبي ، وعقلي ربما، منيرة دروبا ومسالك، وأزقة، تختط إشارات حسية وعلامات تكاد تربط بين الحسي والروحي، بين المادي الآني، والميتافيزيقي، النائي، البعيد..على ظهري، وكتفي، ومنها إلى أردافي وخصري، إلى الفخذ فالساق،  وصولا لأخمص القدمين.

جسدي حياة كاملة.. مدينة تضج بالحياة، أضيأت أنوارها بعد عمر من العتمة. مدينة كانت تغرق في الظلام والسكون، لا تدري أين فرَّ اهلها، أو أين هرب سكان أزقتها. بينما الكف: زائر المدينة الغامض؛ الملاك الذي لا يراه أحد، يفيض على الأرواح بالسكينة .. يعرف أهل المدينة، ولا تخفى عليه حارة من حاراتها أو شارع أو زقاق.

إنتبهت ليديها تهصران الردفين بقوة محسوبة، ورصانة، ولطف، كانت تستخدم قوتها الناعمة في شكلها النموذجي. بالتأكيد كنت أصغي للكفين، وأنصت، فلم يكن مرورهما  بهذه الطريقة مجرد تمسيد أعمى أو محايد، وهكذا رحت أنصت حتى وصل تيار إعجابهما الخفي بالردفين إلى جسدي كله.

 لم أكن متأكدا مما إذا كانت تؤدي عملها بإتقان فقط، أم أنها بالفعل ترسل لي رسائل إيروتيكية. كيف ترى جسدي؟

كنت ممددا على بطني، عاريا تماما، لا أراها، يقتلني الفضول لكي ارى وجهها . كانت صامتة تماما.  انصت لصوت أنفاسها، فلا يصلني منها شيئ.  كنت أعرف أن "الماساج" مهمة شاقة. شخصيا كلما دلكت جسد امرأة كنت أنتهي لاهثا متعرقا. أما هي فلم تكن تلهث. بل ربما لا تتنفس حتى، فلم اكن اسمع لها صوتا.

 حاولت أن أفتح معها أي حوار مقتضب  لأبرر التفاتي إلى وجهها، لمحت نظرة ذكرتني بعيون الجنيات في الأفلام، اللائي يظهرن كومضة من برق خاطف، يداهمن بوجودهن الشبحي الواقع، ويبتسمن، رغم كل المعاني المتناقضة التي تحملها ابتساماتهن، قبل أن يختفين تماما.

هل تقرأ طالعي عبر خارطة جسدي؟

استعدت كل شيء، مرة أخرى، وغيبت ذاكرتي في جنة الحواس، واكتشفت أنني لن أستطيع الإجابة عن الأسئلة التي تتلاحق عن كفيّ تلك الفتاة إلا إذا كررنا التجربة.

ظل جسدي يئن بالنداء عليها، طوال ايام كنت فيها أبدو كمدمن يحاول التوقف عما أدمنه... لم تكن لدى جسدي اية رغبات شهوانية، لكنه كان يفح بنداء غامض، للكفين الآسرتين، ولصاحبتهما.

أستعدت ملامح وجهها فلم أستطع إستدعاؤها..ملامح ضبابية، شعر حالك السواد، تعقصه خلف ظهرها، جسد نحيل بلا تضاريس، وقدمان صغيرتان في جوربين قطنيين، لونهما أبيض ناصعا، تي شيرت ضيق أصفر اللون، وجينز أزرق باهت نسبيا.

استعدت نظرة الجنية التي كانت تسددها لي بين الآن والآخر..ترى ماذا كانت تقصد بنظراتها تلك؟ عينان آسيويتان واسعتان سوداوان، عميقتان، مساحة مسرحية لعرض صامت..كل نظرة سددتها إلى عينيها تقول بأن هناك مونولج داخلي صاخب يمور في صمت روحها المزيف. هل كانت تعرف أن الرسالة الإيروتيكية التي توجهها هي دعوة شهوانية لا بد ان تنتهي باهتياجي، هل كانت سيطرتي على نفسي مثيرة لها أم تراها تشك في قدراتي الجنسية؟.

هززت رأسي تحت وقع النداء الذي أتاني من أعماق نائية في روحي أو جسدي أو وعيي. لم استطع أن أحدد ، لكنه بدا أشبه بأنين صارخ قوي، يطغى على أي صوت آخر.

*****

حين دخلتْ الغرفة  بدت أقل توترا من المرة السابقة.. دخلت مبتسمة رغم أنني اخترت الساعة الأخيرة لعملها في تمام الواحدة صباحا. عيناها كانت أقل حمرة من المرة السابقة، فبدت كأنها كانت تغفو، وايقظوها، لكنها لم تكن متثاقلة مثل المرة السابقة.

خلعت ثيابي كلها، هذه المرة.. سألتها وأنا أنزل بسروالي:

- هل يضايقك أن أخلعه؟

فقالت بلا اكتراث: لا بأس.

تمددت حيث اشارت، بينما انتهت هي من خلع أسورتها وخواتمها، ثم ملأت يديها بالزيت المعطر ووضعت كفيها على ظهري تتحسسهما، ثم قفزت ووضعت فخذيها حول خصري، وبدأت رحلتها التنبؤية.

كنت  أنتظر كل حركة كمن يستمع لقطعة موسيقية يحفظها عن ظهر قلب، وينتشي لمقاطعها، كمن ينتظر صرخات "الساكس" التي يطلقها مايلز ديفيز، بغتة، بعد عزف تجريدي بطيء نسبيا في إحدى مقطوعاته التجريبية لموسيقى الجاز. صحيح أنها بدت وكأنها ستكرر كل شيء كما فعلته أول مرة، لكنني لم أعدم الإحساس بأن ما تقوم به هو فعل عشوائي على نحو ما، غير مدون في النوتة الموسيقية، مثل مقطوعة جاز تسير في غابة اللحن التلقائي دون أن تخرج عن مزاج موسيقى الجاز.

قطعت اللحن بقولي: لماذا كنتِ متوترة في المرة السابقة؟

صمتت كعادتها لوهلة كلما سألتها شيئا، ثم أتاني صوتها من خلف ظهري: المرة السابقة كنت نائمة ومتعبة وأيقظوني ولم استطع أن افيق.

قلت لنفسي: هكذا كانت حالتها وهي نائمة، أيقظت حواسي كلها، واستدعت جسدي من موت طويل..فما بالي بها وهي يقظة؟ لكني فكرت بسرعة أن جولة كفيها التنبؤية على جسدي، في المرة السابقة، ربما جاءت نتيجة لحلم كانت تحلم به قبل أن تستيقظ. هل كانت تحلم بعشيق لا تسمح ظروف عملهما أن يلتقيا في هذه المدينة الوحشية إلا لماما؟ أم أنها حلمت بأمها أو جدتها، أو بعشاق من عشاق صباها عبر الزمن ؟

أحسست بقسوتي قليلا. كوني تسببت في إيقاظها من نوم عميق بعد أن كانت قد أنهت يوم عمل شاق واستكانت إلى فراشها وأحلامها. لكنها كانت وخزة عابرة. فسوف تنتهي مني الآن، كما انتهت من غيري، وتعود إلى أحلامها حتى الصباح.



لا أحب الاجساد الضخمة لأنها تحتاج لجهد وخصوصا المشعرة" قالت. "ولا أحب الموعد الأخير" ..احسست أن جزءا من قلقها  يعود لمعرفتها بشخص كان يقطن نفس الغرفة قبلي. التفت إليها، كانت تنظر لي تلك النظرة..نظرة جنية، آتية من زمن آخر، من مكان، كأني قد عشت فيه في زمن سابق، أو لاحق.

عيناها ظلتا معلقتين بذاكرتي البصرية بعد أن أعدت وجهي إلى وضعه الأول في مقابل التليفزيون أمامي، لكني بدلا من الشاشة المضيئة بالحركة  لم أر إلا ضوء ساطع تُطّل  منه عينان واسعتان ملتمعتان، لونهما مزيج بين البني والعسلي..أحدق بهما فأرى نفسي في زمن آخر..يداها على فخذي، تمسكان بالعضلة الخلفية، تمر بها حتى تصل لموضع اتصالها مع عضلات الردف، ثم تعود، ببطء لحوح، كأنها تخلق علاقة ما بين ما أراه، وما أشعر به.

سرت في جسدي رعدة خفيفة..وتمنيتُ ألا تلاحظها ..لكن صوتها جاءني بنبرة حادة وناعمة.."هل تشعر بالبرد؟ الا يمنحك ما أفعل الدفء؟".

خفت أن أعقب بشيء،أوحتى أن ألتفت إليها.

ثم راحت دوامة عينيها تتسعان وتتسعان فيما أشعر بجسدي ينتقل عبر الزمن..، تنسال الصو أمام عيني كأنني أنزلق، أو بالأحرى أندفع، في انبوب يختنق بالعالم كله، أبنية شاهقة، طيور، بشر ،ووجوه من عوالم ما أعرف وما لا أعرف، صحاري، وغابات، وسماوات، حتى وصلت إلى جبل بعيد..كنت أقترب منه كأنني أسريت إليه، لكنني كلما اقتربت  كلما تنامى شعور بالحبور..ويتسارع شغفي كأنني أعرف أن هناك من ينتظرني ، وأنني أتوق لرؤيته..لكنني لم أستطع أن أحدد ما ينبغي أن أراه إلا قبل ثوان من وقوفي على مدخل كوة عملاقة أعادت لي ذاكرة وجه جميل، كنت التقيته قبل أن أعرف طريقي إلى الجبل..، مزيج من جمال لاتيني، وملامح آسيوية بهية..وشعر أسود طويل، طويل، كانت يلتف حول جسدها العاري يغطيها.. لم أستطع أن أحدد عمرها الطاعن إلا من تجاعيد دقيقة رقيقة حول عينيها، أما جسدها العاري فقد بدا مشدودا ناعما، ولكني انشغلت عن ذاك الجسد حين أمسكت بكفي فأضاءا بغتة بالحياة.كان كفاي يشعان نورا لا أعرف أين مصدره، وعلى سطح الكف كنت أرى دروبا ومسالك وأزقة تتشعب وتلتف فيما أرى نقطة معتمة تتحرك في تلك الدروب، حتى رأيت في نهاية الدرب صورة الجبل الذي أراه أمامي الآن..
كان جسدي يشتعل بحرارة غير طبيعية، لكني لم أعد قادرا على فعل شيء..كنت تحت سطوة كفي تلك الأنثى..كأن جسدي يتحول إلى خارطة للماضي والمستقبل..وبينما كنت أتحرق لكي أرى حياتي على ظهري، كانت هي تتأمل حياتي تلك بفضول وتسدل شعرها على جسدي كأنها تغطيني..كنت أشعر أن شعرها يطول وينسدل ، كأن خصوبة العالم قد حلت بجذوره فجأة..أرى خصلاته السوداء الفاحمة الناعمة تتكاثر حولي كأنها تصنع لي دثارا فيما عجزي عن الحركة يجعلني أشعر بأن ثمة كف عمياء تقبض على قلبي بقسوة
جسد الإنسان يجب معرفة طقوسه
وفلسفته أرضه وكواليسه وأسراره
الجسد هو الحياة نفسها، بكل تجلياتها
الجسد هو المسافة الفاصلة بين الحياة و الموت