ينطلق فى محراب جسد
من أن هناك معبداً وحيداً حقيقياً على هذه الأرض، هو جسد الإنسان يجب معرفة طقوسَ هذا المعبد وفلسفته، أرضه وكواليسه وأسراره، جنونه وفجوره وهلوساته، حقائقه وأقنعته وأكاذيبه، صوره وظلاله وتجلياته، الجميلة منها والبشعة، الملموسة والمجرّدة، الحسيّة والروحانية على السواء، في تصميمٍ مثقّفٍ ورصينٍ وعارف وعنيد على كسر أغلال المحرمات - توقاًً إلى أعلى سماءٍ للحرية بستحقها يد كل كاتب وعالم وفنان في هذه الحياة.

العشيقات في الأدب والتاريخ بين الحقيقة والأسطور

                                                                                فولفجانج شولر

راؤول شروت ترجم أهم ملحمة في الأدب الغربي، غير أنّ صياغته للإلياذة أظهرت الشاعر الإغريقي القديم والمشهور هوميروس، أديباً مبتذلاً. فقد ذكر الآن أنّ هلينا وباريس قد تحابّا "حتى أهتزت قوائم السرير".
إنّ تأثير نظرية راؤول شروت حول مصادر هوميروس Homer وعمله في أنشاء الملحمة الشعرية الكبرى (الإلياذة)، نظرية تستند على التخمين حسب. ولا يضرها كما يبدو، أنّها نتاج تدريجي كبير لحماس جذاب غارق في الخيال، الآن عمد شروت إلى تعقب نص (الإلياذة) بنفسه. هل كان الترتيب معكوساً؟ النص في البدء باعتبار الأساس، ثمّ يأتي بعد ذلك ما بُني عليه وأستند إليه؟ أو أنّ هذه ثابتة راسخة، أي كانت مملة؟ إلا أنّ من الواجب القول؛ المهم على أيّ حال من الأحوال، هو أنّ ما عُرض حقيقة لا زيف فيها. وهنا يبرز شكّ شديد.
في مقدمة الكتاب ذي الطبعة الأنيقة أعلن شروت عن المبادئ التي عمل بموجبها وهي تنمُ عن تعقيد وتكلّف ولكنها مقبولة على نحوٍ ما. وكون القصيدة ليست سداسية التفاعيل كما في النص الإغريقي، أمر لا غبار عليه حد البداهة. ثمّ يفتح المرء الكتاب وتتغافل العين عن أمر. من ذلك بعض الأمثلة، ننتقي منها لا على التمييز، والكتاب ملئ منها: هل كتب هوميروس بدقة وإمعان عندما صوّر إنّ هيلينا وباريس "قد تعاشقا حتى أهتزت قوائم السرير". (الكتاب الثالث/ البيت 448) ؟
هل كان أبو الآلهة زيوس قليل الاهتمام حقاً بحياة ولده ساربيدون Sarpedon عندما عبّر عن ذلك قائلاً: "هذا لا يُناسبني" (الكتاب السادس عشر/ البيت 433) ؟ هل كانت أثينا تحمي من خلال ذلك ربيبها مينيلاوس Menelaos فـ "جعلت له ساقين" أي تركته يهرب (الكتاب 17/ البيت 569) ؟ وآخيل Achill هل شبّه آنياس Aneas بـ "حمار يُضرب بالعصا" (الكتاب 20/ البيت 198) وهل كان حقاً قرويّاً صميماً يستحسن اللهجة العامية؛ "إذا ما أُطلق عليه حماراً، جاء يعدو" (الكتاب 20/ البيت 200) ؟ وهل جعل هوميروس الإله بوصيدون Poseidon يولي اهتماما حقاً بحياة (أينياس) Aneas، معبراً عن ذلك بندائه له: "آييايا ! غير إني الآن أتألم من أجل آينياس". (الكتاب 20/ البيت 293) ؟
هذه الأسئلة التي تتضمن أجوبتها، من أجلها تَعرض الترجمة المزعومة – ويسميها شروت النقل النبيل – أمثلة على صفحاتٍ كثيرة، يجب أن يُجاب عليها بـ (لا) صارمة لا دُعابة فيها. الكثير منها تُرجم خطأً – فأثينا لم تصنع بطبيعة الحال ساقين لـ (مينيلاوس) وإنّما بالعكس منحته قوةً – إلا أنّ الموقف في غير مكانه المناسب ودرجة الصوت التي عبّر بها هوميروس في غير محلها أيضاً، وعلى العموم فهي غير موجودة في النص الأصلي وإنّما نشأت من الخيال الشعبي المحموم للمؤلف.
حقاً إنّ قوائم السرير تهتز بلا شك في ظروف مفرحة معينة – شروت جعل السرير يُطقطق أيضاً – ولكن هوميروس قال فقط" أنّ هيلينا قد نامت مع باريس في السرير"، دون أن يُضيف شيئاً. بعض الأشخاص يطيب لهم أن يعبروا عن اهتمامهم بالأشخاص المقربين منهم بأسلوب فظ ، فقط هوميروس للأسف لم يعبّر هكذا أي إنّه لم يقل شيئاً على الإطلاق.
تصرف (شروت) هذا جاء مخالفاً تماماً لما سبق أن أعلن عنه في مقدمة الترجمة التفسيرية، لأنّ التفسير يجب أن يكون على الوجه الصحيح أيضاً، وهذا ليس كذلك. فإذا أراد المؤلف (المترجم) أن يُقرّب إلى فهم القارئ المعاصر دُعابة جنسية أو سخرية يضيفها إلى مسائل جادة في الأدب الإغريقي فإنّ بوسعه على سبيل المثال أن يقف عند أرسطوفانيس Aristophanes (شاعر فكاهي إغريقي قديم ولد سنة 445ق.م. في أثينا). وهذا ما يولد الحيرة لدى القُرّاء، فيعتقدون أنّ هوميروس ما هو في الحقيقة إلا راؤول شروت.

شروت يكتب للأسف بشكلٍ مختلف
لو أنّ الترجمة التزمت باستمرار الصوت الفظ أو الهزلي على الأقل. لكانت كاريكاتوريات هونورا داومير مثالاً عبقرياً لها أو كتاب أوفنباخ أيضاً "أورفيوس في العالم السُفلي مع مواد مُستقاة من الأدب الإغريقي القديم". ولكن شروت كتب على نحوٍ مختلف. هناك أدوار بلا شك في أصوات مرتفعة مناسبة، كما في الوصف الذي يُصوّر آخيل Achilleus في نهاية صراعه الرهيب مع هكتور مع أنّ الترجمة هنا أيضاً غير مرضية.
وحتى أيضاً الأنشودة السادسة التي يتم فيها تبادل السلاح بين ديوميدس Diomedes لزوجته أندروماخه كانت على أية حال ذات نغمة مناسبة باستثناء إعادة ما هو صحيح نوعاً ما. إذا لم يضطر المرء إلى الاصطدام بـ (شروتيانا) في وسط النص، التي لا تظهر لا في اختيار المفردات ولا في النص أحياناً: سويعة الغرام، الشاطر، صفعة خلفية، توبيخ. هوميروس لا يعرف تعابير سوقية مُستقاة من اللغة الدارجة لطبقات المجتمع الدنيا.
لكل زمان ترجمته الخاصة لهوميروس. فهل هذا الأسلوب يخص زماننا هذا ؟ في كل الأحوال يجب أن يُعيد المرء التفكير بجدية عن الكيفية التي يجب أن تتم الترجمة فيها اليوم، على افتراض أنّ المترجم قد أمتلك ناصية اللغة التي يُترجم عنها. فمن الطبيعي أن تكون الترجمة قابلة للقراءة، ومن مهامها في الوقت ذاته أن تجعل الغريب في النص واضحاً، لأنّ أحوال اليونان الموغلة في القِدَم غريبةً جداً هي الأخرى.
وأخيراً: يجب أن تكون الترجمة صحيحة. حقاً، فالنقد من الجانب العلمي الآثاري القديم يعطل الشبهة بسهولة، ويبالغ جداً في تقييم الصغائر، وهاينرش شيلمان أكبر مثال على ذلك، رجل متحمس غير ذي خبرة أستطاع أن يُحقق اكتشافات رائعة إزاء عالم الاختصاص، حتى وإن كان على العكس مما كان يظن. ولكن الأمر لا يتعلق هنا بالتفاصيل و صفة غير خبير لا تضمن أنّ المرء يمشي في الطريق الصحيح.

بورشادت يُعير أهميّة للشِعر القديم
رودولف بورشادت كان نابغة في اللغتين الإغريقية والألمانية، وكان له الحق في مقالته حول (هوفماثزتال) و (أويربيدس: 484-407 ق.م.) "الكستس" Alkestis متدرجاً في شعرهِ الخاص عن الكستس (بنت بيلياس). لقد أولى أهمية للشِعر القديم antike Dichtung ، أهمية جديّة، ليس لأنها تمخضت عن مواقف خطرة كلفته حياته في النهاية، كتب من خلالها مقالته الأخيرة عن هوميروس، وإنّما تكمن الأهمية في فحوى هذا العمل الذي يحسُّ به القارئ، يحسُّ بقوة الشِعر الهوميروسي.  

جسد الإنسان يجب معرفة طقوسه
وفلسفته أرضه وكواليسه وأسراره
الجسد هو الحياة نفسها، بكل تجلياتها
الجسد هو المسافة الفاصلة بين الحياة و الموت