الجسد والصورة الفوتوغرافية.
لقد تعامل الفنان الفوتوغرافي مع الوجود الجسدي بوصفه قيمة عليا، تثير في الإنسان رغبته في امتلاك الزّمن أو على الأقل توثق الأشخاص فيه، ولعل هذا هو ما دفعه لمحاولة امتلاك الواقع بكل ما فيه من أضواء وظلال وأصوات وحركة وغير ذلك كاللّون والملمس والسّطوح، من خلال اقتناصه للقطة الفوتوغرافية. لقد جذب العديد من النّاس سحر الصّورة، وشدة مطابقتها للواقع، مما دفع الكثير من المؤسسات للاهتمام بالتّقدم العلمي والتّقني المرتبط بتحسين الكاميرا وبتحسين المواد الطّباعية وغير ذلك، فالتّاريخ يذكر أن أول صورة فوتوغرافية ملونة كانت في عام (1861)على يد العالم الفيزيائي البريطاني (جيمس ماكسويل: James Clerk Maxwel)(1831- 1879)، المشهور بتجاربه المهمة ومعادلاته التي تفسر ظهور الموجات الكهرومغناطيسية . والتّاريخ يذكر كذلك أن فن الصّور الفوتوغرافية كان مقتصرا على فن البورتريه (Portrait photography)، اعتمادا على ما قدمه تاريخ فن الرّسم والنّحت التّقليديين والحافلين بمثل هذا اللّون من الفنون، والحقيقة أن الكاميرا قضت على العديد من الأفكار الواقعية، حتى قيل في هذا الصّدد (إن الواقعية قد ماتت)، واقتصر فن التّصوير كذلك على بعض اللّقطات العامة التي توثق حضور المجاميع في اصطفاف متكلف، لكن ما برحت اللّقطة حتى تحولت إلى فن، له قواعده وله أسسه المعروفة، خاصة وان الدّراسات الفكرية لفن التّصوير قد جعلت منها واقعة شيئية بحسب تعبير الظّاهراتيين، المعاصرين لظهور الكاميرا .
لقد كان الفن بمسيرته الحافلة نتاج كاميرا جسدية، تعتمد على قواعد المنظور وقوانينه الرّياضية، خصوصا في العصور الكلاسيكية، وقد اثبت العالم الإسلامي الحسن البصري أن العين تستقبل الصّور من ثقب صغير ليكبر ويتسع على شكل مخروط يمكنه أن يستوعب أفقا كاملا في الفضاء المفتوح، أو المشهد المنظور إليه، وما فعلته الكاميرا هو محاكاة العين الإنسانية، من الصّندوق الصّغير إلى العدسات إلى الثّقب الصّغير، غير أنها استطاعت كذلك أن تبدل الذّاكرة، فوضعت صورها على الورق، بينما يحتفي الإنسان بمشاهداته في الذّهن. انه حدث كوني كبير له قدر من الانفتاح مما جعله قادرا على تحقيق هذه القرية الصّغيرة التي تنادي بها العولمة بوصفها ستراتيج للمعاصرة؛ لان هذه البؤرة الصّورية في الفوتوغراف تحولت وعلى الفور إلى مؤسسة جمالية لها القدرة على تفعيل الخطاب البصري، غير أنها لم تستطع مغادرة الجسد، بل سعت إلى تحقيق القواعد التي أكد عليها تاريخ الفن ذاته في تعامله مع الجسد بغية تحقيق الخطاب المثالي الإغريقي في تحديد مسرف لنمذجة الجسد بالنّسب الذّهبية والقياسات الانثروبوميترية (Anthropometry) ، فالمصور فنان يسعى دائما للحصول على الجسد الأمثل، لان الصّورة أخذت تعكس اهتمامات الفرد وتوجهاته الجمالية. صحيح أن اللّقطة الفوتوغرافية لم تقتصر على الصّورة الجسدية، إلا أنها لم تنفك عنه بأي شكل من الأشكال. وإذا كانت مسيرة الفن الطّويلة تخلد الجسد بطرقها التّقليدية فأن الكاميرا جاءت لتصنع تاريخا للفن جديداً في تقنيته، منذ العثور عليها فكريا وعمليا حتى اليوم، انه بمثابة التّأكيد على خلاصة الخلاصات تلك التي يكون الجسد فيها مركزا خطابيا، انه المحفز على كل قيم الإعلان في هذه الأيام، إنها آيديولوجيا كونية عامة، وما أصاب الرّأي من قال بأن الآيدولوجيا قد انتهت.
أشار (هيدجر) إلى نزاع قديم بين الفجوة المضاءة وحالة الإخفاء، وهذا هو ما أشار إليه (مرلوبونتي) في المرئي واللّامرئي. فكما هناك تباين بين النّور والظّلام، واللّيل والنّهار، والظّاهر والباطن، والكشف والإخفاء، توترت كذلك في الصّناعة المشهدية للصورة بشكل عام والصّورة الفوتوغرافية بشكل خاص، علاقة التّباين هذه خصوصا في التّعامل مع الجسد ، إذ كانت فكرة تحديده من خلال الظّلال فكرة أساسية في فن التّصوير، لان الجسد هو من يكشف الضّوء بوصفه سطحاً بصرياً وهو من يزيح الظّلال عنه، بوصفه كينونة تحب الظّهور والحضور، وبالوقت ذاته تحصل الصّورة الفوتوغرافية على ما يمثل كينونتها كواقعة شيئية، لها قوانينها الإبداعية، وطرقها الأدائية، وحتى لو كانت الصّورة خارج ضغوط السّلطة الآيديولوجية، فأنها قد أسست سلطتها في الخطاب الكوزمولوجي المعاصر، الذي أتقن لعبة الإعلان والإشهار من خلال تأكيده على قوانين (الكشف والإخفاء) و(الضّوء والظّل) و(السّواد والبياض)، بغض النّظر عن أي دعوى أخلاقية أو دينية أو قيمية، تلك التي رفضت وبشدة منذ مطلع الحداثة الثّانية.
فضلاً عن فن البورتريه هناك فن الموديل المرتبط بالجسد الفني كخطاب جمالي، وهو مجال إبداعي صرف، لا يبغي سوى اكتشاف جماليات الجسد، من خلال فعل العري الاشهاري، خصوصا في بعض توجهات المواضيع الأكثر شهرة، كتصوير الأجساد العارية (nude photo)، والأجساد الإباحية (Porno photo)، أو التي تتعلق بالجنس وقيم لذة النّص الجسدي (sexual photo)، أو التي تتعلق بالجسد المثير (erotic photo) وجوانب الإغراء التي فعلت حتى في جوانب أبداعية أخرى غير التّصوير الفوتوغرافي. وللإشارة فقط يجد الباحث أن (nude photo) كنوع إبداعي جمالي في الخطاب البصري الجسدي اقترب كثيرا من رسم الموديل العاري أو حتى نحته، (ينظر الصور المرفقة من 1الى 4) .
لقد حقق الجسد وعلى طول مسيرته الفاعلة إبداعيا الكثير من تلبية الرّغبات، تلك التي تتعلق بالاستمتاع به مجردا عن الذّات والهوية، لأنه بحد ذاته مصدر جمالي صرف، انه صورة وجودية مثيرة لها فاعليتها الجنوسوية، بحكم ما تفصح عنه توصيفته الجغرافية، من الوجه وجمال العينين والجبهة والصّدر والخصر والأرجل وغير ذلك مما تغنى به الفنانون والأدباء والشّعراء. والمصورون إنما حاولوا إعادة إبداع ما تم إبداعه مسبقا في التّعامل مع صورة الجسد، لذا أصبح توجه الكثيرين منهم إلى توضيح خطابه الجمالي مجردا عن العنصريات والهويات والكشف الذّاتي الفردي أو الشّخصاني، إنهم يحاولون استنطاقه وكشف سطوحه وسحنته ومساماته عبر تمرير عدساتهم على جغرافيا الموديل، ليظهروا قشعريرته وطياته وانحناءاته وكل ما يتعلق به كجسد، كظاهرة وجودية، أو واقعة شيئية. من دون أي تدخل نفعي سلعي، إلا أن التّعري اخذ يعني انتهاكاً لحقوق الجسد ذاته، (ينظر الصور المرفقة من 1الى 4)، وعلى الرّغم من ذلك أدخل الجسد في دوامة الإعلان والاستهلاك المباشر والصّريح. فيبدو أن حلم الخلاص الجسدي حلم لا يمكن له التّحقق، انه بمثابة اليوتوبيا، لاستحالة انفكاك الغرض والمنفعة عنه، ويبدو أن الجسد من أكثر الموجودات تورطا بهذا الأمر, ولعل هذا يبرر سعة حضوره في مجل تاريخ الإنسانية الإبداعي.
لقد حاول الإنسان أن يجد جسدا بديلا إيهاميا من خلال تفعيله للفنون التّقليدية المعروفة (كالرّسم والنّحت) وغيرهما، وها هو يحاول أن يجد أجسادا أخرى بوسائل أكثر تقدما، خصوصا بعد أن تم ظهور التّصوير الفوتوغرافي الافتراضي أو الرّقمي (Photo digital)، إذ أخذت جوانب الإبداع تتسع وتأخذ مجالها في إيجاد نوع من الواقع بديل. وربما ستأخذ مقولة الواقع الافتراضي شأنها الملحوظ من قبل الدّارسين بوصفها نتائج هذه العين البديلة للإنسان (الكاميرا). أضف إلى ذلك ظهور الفضائيات والبث المباشر والانترنت وشبكات الاتصال. إنها دوائر تقنية لإدخال الجسد في دوامات إبداعية جديدة، لأنه لازال مركز الخطاب وما زال ثيمته الأولى. فان كانت توجهات الإنسان قديما حول الجسد كقيمة روحية تبغي الحفاظ على النّوع كما في الفن الكهوفوي، فأنه قيمة دينية تحاول الارتباط بالمطلق كما في فنون الحضارات، وهو قيمة قياسية جمالية كما عند الإغريق، وهو قيمة تشريحية كما في القرون الوسطى، وهو قيمة ذاتية كما في الحداثة، وها هو قيمة إعلانية كما في فنون ما بعد الحداثة، مصدر جذبه الوحيد عريه السّاحر، انه فتنة الوجود ولغزه الذي لم يسلم حتى أكثر الملائكة عبادة منه، كما هو معلوم للجميع قياس (إبليس)، اللّاجسدي مع الجسدي.
الصّورة الفوتوغرافية أو الصّورة عموما إنما أخذت قيمتها البلاغية في التّعبير عن الكثير من الحالات الإنسانية، والقيمة التّعبيرية هي الأهم في عملية توصيل الافكار إلى الاخرين، وقد قلنا بأنها نزعة فطرية في الإنسان، لكن الباحث يجد ان الصّورة كالعمل الفني، متجاوز للكثير من المحددات كاللّغة والقومية والزّمان والمكان والأجناس والأعراق وغير ذلك، لذا قيل بأنها تعدل ألف كلمة، لشدة ما فيها من تعبير وقدرة على الإيصال ولتجاوزها للمحددات.